اتفاق السويداء- فرص السلام وتحديات التطبيق في سوريا

المؤلف: عمر كوش08.23.2025
اتفاق السويداء- فرص السلام وتحديات التطبيق في سوريا

في أعقاب إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في رحاب محافظة السويداء، يثور تساؤل جوهري حول آفاق نجاحه وحظوظ تطبيقه على أرض الواقع. تظل الأمور برمّتها معلقة على كفّ الاحتمالات، لا سيما في ظلّ الإخفاق المتكرر لتنفيذ اتفاقيات سابقة بين الحكومة السورية والقيادات الروحية النافذة في المحافظة.

إذًا، ما الذي يميز هذا الاتفاق الجديد عن سابقيه؟ وهل سيتمكن من إحداث انفراجة حقيقية في جدار الأزمة المتفاقمة بين الفصائل المتسلحة المتناحرة في الجنوب السوري؟ خاصة إذا استمر كل طرف في التشبث بحساباته الميدانية الضيقة ورغباته الانتقامية الجامحة، غير عابئ بالضمانات الأمريكية ولا بالرهانات الإقليمية التي كانت وراء إقراره؟

مسارات الاتفاق

أتى هذا الاتفاق بعد انحسار وحدات الجيش وقوى الأمن الداخلي، تلك التي تدخلت من أجل فض الاشتباك المحتدم بين المسلحين المنتمين للدروز وعشائر البدو الرحّل، وذلك على خلفية شن إسرائيل لهجمات على القوات الحكومية ومقراتها في قلب العاصمة دمشق، الأمر الذي أثار موجة من الاستنكار العربي والإقليمي الرافض لتلك الاعتداءات الصارخة.

أدى تجدد الصدامات العنيفة، في معظم أرجاء محافظة السويداء، بين المسلحين من البدو والدروز، إلى تدخلات ووساطات دولية وإقليمية حثيثة، أسفرت عن التوصل إلى اتفاق جديد، لا يختلف كثيرًا عن الاتفاق الذي سبق أن تم توقيعه بين الحكومة السورية والقيادات الروحية في السويداء، والذي سرعان ما تراجع عنه الشيخ حكمت الهجري بحجة أنه رضخ له تحت وطأة ضغوط خارجية جمة، ثم طالب بتدخل خارجي سافر (إسرائيلي) لحماية الدروز، في موقف يُعدّ غير وطني على الإطلاق، ويضاف إلى موقفه الرافض للاعتراف بالتغيير الجذري الذي طرأ بعد سقوط النظام السابق، وعدم اعترافه بشرعية الإدارة الجديدة، التي يصفها على الدوام بأنها "مجموعة إرهابية".

وهو موقف يتسم بالعدمية المطلقة، وينطوي على نزعة طائفية بغيضة، ويفتقر إلى الحنكة السياسية، ويعتمد على قوى خارجية في مواجهة السلطة الجديدة القائمة.

لقد اشتمل الاتفاق على تفاهمات قيّمة توافق عليها الوسطاء: الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة الأردنية الهاشمية، وتركيا، بالتنسيق مع الدولة السورية؛ بهدف ضمان إنهاء الاشتباكات الدائرة ومنع تجددها في المستقبل، وإعطاء فرصة سانحة للحلول السياسية تحت رعاية الدولة، حيث يمثل هذا الاتفاق فرصة حقيقية لاختبار قدرة الدولة السورية على وضع حدّ للاقتتال الأهلي المستمر، وإمكاناتها في التصدي للدعوات والمشاريع التقسيمية الهدامة.

وعلى الرغم من أن كافة تفاصيل الاتفاق لم تُعلن بعد، فإن تصريحات بعض المسؤولين المعنيين أشارت إلى أنه يتألف من ثلاث مراحل رئيسية:

  • المرحلة الأولى؛ تتضمن انتشارًا مكثفًا لقوى الأمن الداخلي، بصفتها قوات معنية بفض الاشتباكات والنزاعات في معظم الريف الغربي والشمالي لمحافظة السويداء، بالإضافة إلى الطرق الرئيسية التي تربط المدن ببعضها؛ منعًا للاحتكاكات المحتملة في ظل الظروف الراهنة.
  • المرحلة الثانية؛ تنص على افتتاح معابر إنسانية آمنة بين محافظتي درعا والسويداء، بهدف تأمين خروج المدنيين العالقين والجرحى والمصابين، وتبادل الأسرى والمخطوفين المحتجزين، وإدخال المساعدات الإنسانية الضرورية والمستلزمات الطبية العاجلة.
  • المرحلة الثالثة؛ تشمل ترسيخًا فعليًا للتهدئة الشاملة عبر تفعيل مؤسسات الدولة المختلفة، وانتشار عناصر الأمن الداخلي في كافة أرجاء المحافظة تدريجيًا وفقًا للتوافقات التي تم التوصل إليها بين الأطراف المعنية.

مقومات النجاح

يحمل اتفاق السويداء في ثناياه فرصة ذهبية، ليس فقط لوقف إطلاق النار في المحافظة، بل أيضًا لإخماد نار التوتر والتعصب المتأججة، لكن شروط نجاحه تظل معلقة على جملة من الأمور الجوهرية، والتي من أهمها:

  1. قدرة جميع الأطراف المعنية على تجاوز حساباتها ومكاسبها الضيقة والشخصية، وهو تحدٍ كبير يعيد إنتاج إشكاليات الماضي ويعرقل التقدم المنشود.
  2. توافر إرادة حقيقية لتنفيذ بنود الاتفاق لدى جميع الأطراف، احترامًا لقدسية دماء السوريين الأبرياء، وإبداء الرغبة الصادقة في تغليب لغة الحوار العقلاني ونبذ العنف بكل أشكاله، والمساهمة الفعالة في تخليص سوريا من وضعها الكارثي الذي تسبب به نظام الأسد البائد.
  3. قد تكون المتغيرات الداخلية المتسارعة والمواقف الإقليمية والدولية الضاغطة دافعًا قويًا للالتزام بالاتفاق الجديد، لكن نجاحه الفعلي يحتاج إلى جهود استثنائية مضاعفة، تصب في خانة ردم فجوة انعدام الثقة العميقة بين المكونات السورية المتنوعة، وتطبيق كافة بنوده بشكل كامل وشامل، وفي مقدمتها تلك المرتبطة بتوفير الأمن والأمان في ربوع المحافظة.
  4. تشكيل لجنة مستقلة لتقصي الحقائق وكشف ملابسات الأحداث ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات وفقًا للقانون النافذ، وجبر الضرر وتعويض المتضررين، ثم البحث المعمق في آليات دمج أبناء محافظة السويداء وسواهم في مؤسسات الدولة السورية المختلفة.
  5. اعتماد قوانين صارمة تجرّم وتحرّم التحريض على الكراهية، والتعبئة الطائفية، والتجييش المذهبي، وكافة أنواع وأشكال التعصب الديني والإثني والعشائري البغيض، والعمل الدؤوب على ترسيخ السلم الأهلي والمصالحة المجتمعية الشاملة.
  6. العمل الجاد على إشراك كافة الفعاليات السياسية والمدنية والاجتماعية في كل مفاصل الحكم والإدارة، وإطلاق حوار وطني جامع ومستدام لكل المكوّنات السياسية والاجتماعية، يمكنه صياغة عقد اجتماعي جديد أو ميثاق وطني شامل يرضي جميع الأطراف.

أفق واعد

المأمول والمرجو هو أن يشكل هذا الاتفاق نافذة انفتاح ضرورية ومثمرة بين الحكومة السورية والفعاليات الدينية والاجتماعية المرموقة في المحافظة، في وقت يتطلع فيه السوريون جميعًا إلى الخلاص النهائي من سلسلة الأزمات الكارثية المتلاحقة التي أنهكت البلاد وأرهقت العباد.

ولعل الأهمية القصوى لهذا الاتفاق تتجلى في كونه بمثابة خطوة أولى واعدة نحو استعادة الثقة المفقودة، وتعزيز دور مؤسسات الدولة باعتبارها مرجعية جامعة وملاذًا آمنًا للجميع، عبر نبذ العنف والتطرف وتغليب لغة الحوار البناء والعقلانية، بما يفضي في نهاية المطاف إلى الخروج من النفق المظلم عبر توفر إرادة سياسية مسؤولة وواعية لدى الجميع، لتجنب إعادة إنتاج تشنجات الماضي المريرة، والاحتكام إلى القانون بوصفه الضامن الوحيد لأي حل مستدام وعادل، ونزع السلاح غير النظامي من كافة المجموعات المسلحة.

لقد عكست الأحداث الطائفية المؤسفة التي شهدتها محافظة السويداء أزمة سياسية عميقة الجذور، تجلّت بوضوح في موجة عارمة من التعصب والعنف الطائفي المقيت، والتي سرعان ما انتشرت إلى الساحل السوري في شهر مايو/ أيار الماضي، وانتقلت بعدها إلى مناطق أخرى متفرقة، وباتت تشكل تهديدًا حقيقيًا لوحدة التراب السوري وسلامة النسيج الاجتماعي المتماسك.

ومما يزيد من خطورة الوضع الراهن هو الانتشار الواسع للسلاح المنفلت بيد الأفراد والمجموعات المحلية، تلك التي لم تتمكن الدولة من دمجها حتى الآن، بالنظر إلى عدم بناء المؤسستين الأمنية والعسكرية على أساس عقيدة الدولة الراسخة، والتي تعامل الجميع باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات دون تمييز أو تفضيل.

كان المطلوب دائمًا ولا يزال هو أن تفتح الإدارة الجديدة نافذة واسعة للحوار الصريح والشفاف بين السوريين حول شكل الدولة المنشودة، وحول مستقبل سوريا المشرق الذي يتطلعون إليه.

الأفق الحضاري

لا يُعدّ التنوع الديني والإثني أمرًا جديدًا على سوريا، بل شهدت على مر العصور تعايشًا تاريخيًا فريدًا بين مختلف مكوناتها الاجتماعية والدينية، حيث تشكلت روابط وثيقة وتقاليد راسخة للعيش المشترك السلمي، أسست لأفق حضاري رحب في سوريا الطبيعية ومنطقة المشرق العربي قاطبة منذ ما قبل الإمبراطورية العثمانية الغابرة.

لطالما كان تاريخ المكونات الدينية والإثنية السورية هو تاريخ للعيش المشترك والتعاون المثمر، ونشأ الإطار الحضاري الجامع في المنطقة من التنوع الغني لمكوناتها، وشكل سدًا منيعًا أمام محاولات ضربه وتقويضه وحصره في لون ديني أو إثني وحيد، وخاصة خلال لحظات التحول والانتقال الحاسمة، والتي شهدت صراعات وحروبًا طاحنة.

يقتضي إدراك النطاق الحضاري الجامع في سوريا توفير بيئة مناسبة للتعايش السلمي المستدام، عبر الوصول إلى تناغم أكبر بين مكوناتها المتنوعة. وتعتبر هذه المهمة منوطة بالدولة بالدرجة الأولى، والتي تحتضن الجميع دون استثناء، ليس وفق منطق الطائفة أو العشيرة الضيق، بل وفق مقتضيات مبدأ المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.

لذلك، تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى بذل جهود أكبر وأكثر فاعلية في الداخل السوري، بغية تقوية النسيج الاجتماعي المتين، كي يقف حائلًا منيعًا أمام قوى الخارج المتربصة، وسدّ الثغرات التي يمكن أن تتسلل منها، أو أن تسوّغ تدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية.

أحد جوانب المشكلة الرئيسية هو أن الإدارة الجديدة قد ركّزت في تعاملها على الكيانات الطائفية ممثلة بزعمائها التقليديين، والعشائر ممثلة بوجهاءها المعروفين، كما أنها لم تلجأ بما فيه الكفاية إلى الفعاليات والقوى السياسية والمدنية الفاعلة، وذلك في ظل عدم وضع قانون ناظم للأحزاب السياسية، مع العلم أن سوريا كانت معروفة بحياتها الحزبية الغنية والنشطة قبل انقلاب البعث عام 1963، ولا يخلو الأمر من وجود أحزاب ضعيفة وغير تمثيلية، فضلًا عن قوى المجتمع المدني الممثلة بالنقابات المهنية والجمعيات الأهلية وغيرها.

ولعل فتح الحوار البناء مع هذه القوى الحزبية والمدنية يسهم بشكل فعال في إشراك غالبية السوريين في التوصل إلى حلول ناجعة للمشاكل والتحديات الراهنة، بينما الاقتصار على الحوار مع الزعماء الروحيين فقط، لا يضمن إجماعًا سوريًا عامًا وشاملًا، لأن الإنسان السوري هو كائن سياسي واجتماعي أيضًا، وليس كائنًا دينيًا أو طائفيًا أو إثنيًا فحسب.

لذلك، فإن من الأهمية بمكان فتح حوار واسع النطاق مع القوى السياسية والاجتماعية والشخصيات المستقلة ذات الكفاءة والنزاهة، من أجل الوصول إلى إجماع وطني حقيقي، يضع تصورًا مشتركًا لشكل الدولة ونظامها السياسي المستقبلي؛ بغية تجاوز المرحلة الانتقالية الحساسة دون الوقوع في مطبّات جديدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة